في هذه المقالة، نسلط الضوء على المأساة الإنسانية التي يعيشها السودان، والتي تُعد من الأزمات "المنسية" في الساحة الدولية، حيث يعاني الشعب السوداني اليوم من صراع داخلي دامي يقضي على مقومات الحياة الأساسية، ويؤدي إلى دمار شامل في البلاد. ورغم أن معاناة السودان تشبه إلى حد كبير مأساة غزة من حيث الأوضاع الإنسانية الكارثية، إلا أن الفارق الجوهري يكمن في أن السودان يواجه دمارًا داخليًا نتيجة لصراع بين أبناء الوطن، حيث تتقاتل القوات المختلفة على السلطة والنفوذ. ما يزيد من تعقيد الأزمة هو التدخلات الإقليمية والدولية التي تسعى إلى تقويض استقرار البلاد، مما يطيل أمد المعاناة.
منذ استقلالها عن الاستعمار البريطاني في عام 1956، لم تشهد السودان استقرارًا طويل الأمد. فقد عانت البلاد من سلسلة من الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، مما جعلها، رغم ما تمتلكه من ثروات طبيعية وإمكانات اقتصادية ضخمة، عرضة للفقر والمجاعات والتدهور الاقتصادي والعمراني. ففي العديد من المحطات التاريخية، فرضت المؤسسة العسكرية سلطتها، مما أسفر عن استمرار الحروب والانقسامات الداخلية.
في عام 2011، شهد السودان واحدة من أبرز اللحظات الفاصلة في تاريخه الحديث، حيث انفصل جنوب السودان عن الشمال. هذا الانفصال ترك آثارًا اقتصادية وجيوسياسية عميقة، حيث خسر السودان نحو 80% من إيرادات العملة الأجنبية التي كانت تأتي من النفط، بالإضافة إلى فقدان ثروات طبيعية أخرى مثل الموارد الزراعية والحيوانية التي كانت تميز جنوب السودان.
على الصعيد الدولي، كانت هناك تدخلات إقليمية ودولية، كان أبرزها دعم إسرائيل لانفصال جنوب السودان. فقد أدركت إسرائيل أهمية الموقع الجيوسياسي للجنوب، خاصة أنه يقع في أعالي منابع نهر النيل، مما يتيح لها توسيع نفوذها في المنطقة من خلال علاقات استراتيجية مع دولة جنوب السودان. سارعت إسرائيل إلى الاعتراف بالدولة الجديدة، وأقامت معها علاقات دبلوماسية، كما تم تبادل الزيارات الرسمية بين الطرفين، بما في ذلك زيارة لوفد إسرائيلي برئاسة داني دانون، نائب رئيس الكنيست، إلى جوبا عاصمة "جنوب السودان".
في هذا السياق الكارثي، يواجه السودان اليوم أزمة إنسانية غير مسبوقة نتيجة للصراع العسكري الداخلي الذي اندلع في نيسان 2023 بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). هذا الصراع المدمر، الذي بدأ في الخرطوم وسرعان ما امتد إلى مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك دارفور والمناطق الشرقية والجنوبية، أسفر عن عشرات آلاف القتلى والمصابين وأدى إلى نزوح ملايين السودانيين، ما خلق أزمة لاجئين هائلة.
مع استمرار القتال، تأثرت الأوضاع الإنسانية بشكل كارثي، حيث يعاني نحو 15 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، بينهم أكثر من 6 ملايين في مرحلة ما قبل المجاعة. ومع تعطيل النشاط الزراعي بسبب الحرب، تفاقمت أزمة الغذاء والدواء والمياه، ما يهدد حياة المدنيين بشكل يومي. كما تسببت الحرب في تدمير البنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس وشبكات المياه، مما جعل من الصعب تقديم الرعاية الصحية الأساسية للمتضررين.
تسبب الصراع في شلل الاقتصاد السوداني، حيث تراجعت قيمة الجنيه السوداني بشكل كبير، وارتفعت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، مما جعل من الصعب على المواطنين تلبية احتياجاتهم الأساسية. كما دُمرت الطرق والموانئ وتوقفت الأنشطة الزراعية والصناعية، مما ضاعف من معاناة السودانيين الذين يواجهون ظروفًا اقتصادية شديدة القسوة.
في ظل هذه الأوضاع المتفاقمة، يبرز دور الإمارات في الصراع السوداني، وهو دور يثير الكثير من الجدل. فقد تجاوزت الإمارات حدود التدخلات التقليدية لتصبح لاعبًا رئيسيًا في العديد من الأزمات الإقليمية والدولية. من تمويل الانقلابات العسكرية إلى تقديم رشاوى ضخمة لمؤسسات وأفراد بهدف التأثير على سياسات الدول، وصولًا إلى محاولات زعزعة الاستقرار السياسي والاقتصادي في بعض البلدان، لا يمكن تجاهل الدور المشبوه الذي تلعبه الإمارات في الملفات الإقليمية.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال دعم الإمارات للاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة في القدس والضفة الغربية، مما يضعها في صف القوى التي تقوض حقوق الشعب الفلسطيني. من هنا، نجد أن أي جهة عربية أو إسلامية تتعاون مع الإمارات أو تتماهى مع مواقفها المشبوهة في هذه الملفات وغيرها تصبح في دائرة الشبهة أيضًا.
في الختام، يتضح أن السودان لا يعاني فقط من تحدياته الداخلية، بل أصبح ساحة لصراعات إقليمية ودولية تعمق معاناته وتزيد من تعقيد أزمته. السودان، الذي كان يُلقب بـ "سلة غذاء العالم" بفضل ثرواته الزراعية والحيوانية، يواجه اليوم أزمة غذائية حادة تهدد حياة ملايين من أبنائه. هذه المجاعة لم تكن نتيجة فقط للصراع العسكري المستمر، بل هي أيضًا نتاج سنوات طويلة من سوء الإدارة الاقتصادية، والعقوبات، وتدهور البنية التحتية.
وعلى الرغم من التشابه بين مأساة السودان وغزة، حيث يعاني المدنيون في كلا البلدين من أزمات متزايدة بفعل النزاعات المستمرة، إلا أن المعاناة في السودان تتفاقم بشكل يومي بسبب غياب حلول فعّالة. التحديات التي يواجهها الشعب السوداني اليوم تتطلب استجابة عاجلة على الصعيدين الإنساني والسياسي. ففقدان الأمن الغذائي، وتدهور الرعاية الصحية، وتعطل الخدمات الأساسية أصبحت تهدد حياة الملايين، مما يستدعي تحركًا دوليًا عاجلًا للضغط نحو تحقيق السلام وإنهاء الصراع الذي طال أمده.
من المهم أن نؤكد في النهاية أن المجتمع الدولي لن يكتسب مصداقيته في معالجة الأزمات الإنسانية إلا إذا تبنى نظامًا عالميًا أكثر عدلاً ورحمة، يضمن حقوق الإنسان ويضع حدًا للظلم والاضطهاد. فالأحداث الجارية في السودان، مثلما هو الحال في العديد من مناطق العالم، تعكس فشل النظام الدولي القائم في توفير حلول حقيقية لمشاكل الشعوب. لذلك، من الضروري التفكير في بدائل أكثر نزاهة وعدلًا، تضمن مستقبلًا أفضل للشعوب المقهورة وتضع حدًا لهذه الأزمات المستمرة.